موسيقى العقل ...صيحة إنذار نحو استعادة التوازن المفقود بين الحياة والتكنولوجيا
الإثنين، 16 ديسمبر 2024 03:17 م
كتاب موسيقى العقل
يمني سالم
كل الإشعارات التي تصل إلينا سواء من جهاز الكمبيوتر أو الهاتف تجعلنا نعتاد عليها، ونصاب بالحزن لمجرد فقدان أي منها. وبمرور الوقت يتطور هذا الشغف بصورة تلقائية، إلى ما يشبه الإدمان السلوكي، وهو سلوك قهري متكرر نلجأ إليه بهدف تغيير الحالة المزاجية.
هذه هي الحقيقة المفزعة التي آلت إليها كافة المجتمعات في شتى بقاع العالم، في ظل الانتشار غير المسبوق والسريع لتكنولوجيا المعلومات والوسائط والاتصالات المحمولة، والتي رغم ما حملته من فوائد جمة، كان لها تداعيات وخيمة على الصحة العقلية والجسدية.
ففي عصرنا الرقمي التي غزت تطبيقاته كافة مناحي الحياة، تحول البشر إلى مجرد مستخدمين للتكنولوجيا. يتصور كل فرد أنه يملك حرية اختياراته، فيشاهد ما يشاء ويعلق على ما يريد، ويبدي إعجابه بما يستحسنه، دون أن يدري أنه يتم توجيه من خلف الشاشات التي تلاحقنا في كل زمان ومكان، ليقوم بهذه السلوكيات ويظل في نهاية المطاف أسيرا لهذه المصيدة. وهو ما يضمن لشركات التكنولوجيا ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي مواصلة حصد أرباحها الطائلة، وذلك من خلال استغلال بيانات المستخدمين وسلوكياتهم من أجل تقديم إعلانات للسلع والمنتجات الملائمة لكل فرد، وهو نموذج الأعمال المعروف باسم نموذج الإيرادات المدعوم بالإعلانات.
نعم أصبح المستخدمون سلع يجري بيعها للشركات المعلنة، وبالتبعية استنزافهم ماديا من خلال تعزيز غريزة التسوق، بينما كان للسلوكيات الجديدة الناجمة عن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي العديد من التداعيات السلبية على الصحة العقلية، ولا سيما وأنها عمدت إلى بناء خوارزميات منصاتها بطرقة تؤدي إلى تعزيز الصراع والخوف والعدوانية.
وهذا هو المحور الأساسي الذي يتناوله د. كارل مارسي أستاذ الطب النفسي في جامعة هارفارد، وأحد الخبراء المرموقين عالميا في مجال علم الأعصاب الاجتماعي والاستهلاكي في كتابه الممتع" موسيقى العقل.. كيف يستعيد الدماغ السيطرة على إيقاعه في العصر الرقمي"، والصادر عن دار صفصافة للنشر والتوزيع، وترجمه إلى العربية أحمد عبد الفتاح.
وتنطلق الفرضية الأساسية لكتابه، من مفهوم "إعادة تشكيل الوصلات العصبية" بالدماغ، وتفترض أن أي تغيير في سلوكنا يؤدي إلى تغيير في أدمغتنا. وهذا ليس مجرد تخمين؛ ولكنه حقيقة عصبية حيوية، فالتغيرات السلوكية الصغيرة تؤدي إلى تغييرات صغيرة داخل الدماغ، والعكس صحيح.
قد يعاني الإنسان من ذبحة قلبية بسبب انسداد أحد الشرايين المرتبطة بالقلب، وبالمثل وعلى نحو أكثر تعقيدا قد يعاني جزء المخ هو الأكثر أهمية في الدماغ من تعدد المهام وكثرة المعالجات التي يجريها في نفس الوقت وهو القشرة الجبهية.
وتشكل القشرة الجبهية الجزء الأكبر من الفص الجبهي للمخ، المنطقة الأكثر تعقيدًا وتشابكًا في الدماغ البشري، ويتطلب هذا الجزء المتطور للغاية من الدماغ أقصى درجة من العناية، فهو بمثابة مركز القيادة الذي يدير كافة الوظائف بالمخ.
ومن الحقائق العلمية التي تغيب عن الكثير منا أن الدماغ البشري بعد الولادة لا يتجاوز تطوره 10%، أما النسبة المتبقية (90%) من نموه فتحدث خارج الرحم، ولا يكتمل نمو المخ إلا بنضخ القشرة الجبهية بشكل كامل في منتصف العشرينيات من العمر.
وخلال هذه الفترة الطويلة من النمو، نقوم ببناء شبكات وخلايا عصبية تمكننا من تكوين روابط اجتماعية قوية، بداية من مرحلة الولادة، وتواصل مسيرتها في التطور طوال حياتنا. ولكن ما يبعث على القلق هو التأثير المحتمل لتكنولوجيا الوسائط والاتصالات على هذه الروابط القوية والآثار المترتبة عليها على تطورنا.
وتتأثر هذه الفترة الحرجة من النمو بالعوامل البيئية، بما في ذلك الضغوط والأحداث السلبية، بالإضافة إلى الوسائط التي نستهلكها والوسائل التي نتواصل بها مع بعضنا البعض.
ويشبه د. مارسي القشرة الجبهية بأنه بمثابة قائد الأوركسترا الذي يدير كافة أقسام الأوركسترا بشكل متزامن كي تتدفق الموسيقى رقراقه في سلاسة وتتابع، حيث توجه أجراء المخ للعمل بشكل متزامن في تعاون وانسجام، وبالعكس فإذا كانت القشرة الجبهية، مشتتة أو ضعيفة بأي شكل من الأشكال، فإن روح الانسجام تغيب عن منظومة عمل المخ، وتصبح النتيجة هي الفوضى أو الضوضاء. لقد مررنا بهذه التجربة عندما لا نستطيع معالجة المعلومات بفعالية كما نفعل في العادة، وهذا يرجع بالكلية إلى عدم قدرة القشرة الجبهية على العمل بكامل طاقتها، وهو أمر يجب أن ننتبه إليه في ظل هذا المشهد التكنولوجي سريع التطور.
وحول التداعيات السلبية لتكنولوجيا الوسائط والاتصالات يشير د. مارسي إلى أن هناك زيادة مطردة في الاضطرابات العقلية سواء القلق أو الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة أو تعاطي المخدرات أو الانتحار.
وظهرت تداعيات هذه الاضطرابات في العديد من الحوادث المرتبطة بإدمان التكنولوجيا مثل حالات الانتحار التي يتم بثها على الهواء مباشرة أو وقوع النساء فريسة لخوارزميات ضارة تروج لفقدان الوزن، والتعري الجسدي، وغيرها من صور الانتهاكات. وهذه القضايا موثقة ولا يمكن إنكار أضرارها على صحتنا.
ويعلل د. مارسي ذلك بقوله إنه كما ارتفع وقتنا أمام الشاشات بشكل كبير، كلما تطورت لدينا عادات جديدة، يدعو الكثير منها للقلق. ويقر بأن الاستخدام المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي أسهم في خفض التفاعلات الاجتماعية المباشرة وجهاً لوجه وهي الأكثر فائدة لصحتنا، كونها مصادرنا للتنظيم العاطفي والدعم النفسي. كما أدى تعدد المهام عبر الوسائط والإفراط في مشاهدة الشاشات والتي أضحت منتشرة في كل مكان، إلى انخفاض الإنتاجية.
وفي ضوء هذه الحقائق يطلق د. مارسي صيحة إنذار من أجل استعادة التوازن المفقود بين الحياة والتكنولوجيا وذلك من خلال عشر توصيات تجريبية مدعومة علميا للمساعدة في حماية أدمغتنا بشكل عام والقشرة الجبهية بشكل خاص. ومن خلال أسلوب علمي رصين يأخذنا المؤلف في رحلة بدءً من تطور الدماغ لدي الإنسان الأول وصولاً إلى العصر الرقمي ليؤكد في النهاية أن التكنولوجيا ستظل أدوات ينبغي الاستفادة منها واستغلال امكانياتها الهائلة ولكن دونما الخضوع لسيطرتها.
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
محافظ الجيزة يتابع انتظام انعقاد سوق اليوم الواحد بإمبابة اليوم الجمعة
03 يناير 2025 04:54 م
1 نجاح فريق طبي متخصص بقسم الأمراض الصدرية بطب قصر العينى فى تشخيص أول حالة مرضية نادرة فى مصر لمرض VEXAS.
-
مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة إلى مطار دمشق الدولي
-
رئيس الجامعة:1371 مواطنا استفادوا من الخدمات الطبية والتوعوية والبيطرية وورش العمل والكشف والعلاج مجانا
-
هيئة المحطات النووية تحصل على إذن إنشاء منشأة تخزين الوقود النووي المستهلك لمحطة الضبعة النووية
-
سعر الدولار اليوم السبت
أكثر الكلمات انتشاراً